مجتمع ما بعد المعلومات

الصحافة في مجتمع ما بعد المعلومات

التوجه العالمي نحو التكنولوجيا في مجتمع ما بعد المعلومات

في 2011 أصدر الرئيس الأمريكي باراك أوباما مبادرة شراكة التصنيع المتقدم لتعزيز قدرة الولايات المتحدة التنافسية العالمية في مجال التكنولوجيا. وفي المقابل نظمت الأكاديمية الصينية للهندسة في 2013 فريقا يضم أكثر من 100 باحث لتطوير القطاع الصناعي الصيني. وصاغة استراتيجية “صنع في الصين 2025” والتي تهدف للأرتقاء بالقطاع الصناعي وزيادة عدد براءات الاختراع

وفي 2015 أطلقت فرنسا استراتيجية صناعة المستقبل التي تركز على التقنيات الذكية وتطبيقاتها في المدن الذكية والنقل والطب والبيانات العملاقة. أما كوريا الجنوبية فتنبنت في 2016 استراتيجية التصنيع الذي يركز على الذكاء الاصطناعي إنترنت الأشياء والسيارات الذكية والطب

 وفي 2020 طرحت ألمنيا أستراتيجية التكنولوجيا العالمية الجديدة للتركيز على الابتكار في مجال التكنولوجيا. أما بريطانيا فوضعت استراتيجية الصناعة والطاقة 2050. كذلك اليابان طرحت استراتيجية أنترنت الأشياء للحفاظ على تقدمها في مجال الروبوتات

هذه الاستراتيجيات تعكس الرؤية العالمية نحو التكنولوجيا في عصر ما بعد المعلومات، فما هو المقصود بهذا المصطلح؟

الذكاء الاصطناعي وعصر ما بعد المعلومات

في 2016 تربعت ٤ شركات على القمة من حيث القيمة السوقية. هذه الشركات هي: ألفابيت المالكة لجوجل، تليها أبل، ثم مايكروسوفت، ثم فيسبوك. هذه الشركات الأربعة تمتلك كم معلومات هائل عن المستخدمين حول العالم. أمتلاك هذه الشركات للمعلومات وامتدادها للعمل عبر الفضاء الإلكتروني حول العالم أعطاها قوة كبيرة. وجعلها مصدر تهديد للأنظمة السياسية في الدول، ومن ثم الصدام معها، والأمثلة على ذلك كثيرة

الخطورة لا تكمن فقط في امتلاك المعلومات، ولكن في القدرة على توظيف هذه المعلومات. فهذه الشركات قامت بتطوير منظوماتها التكنولوجية. وقد أصبحت البرمجيات قادرة على جمع البيانات وتحليلها وعمل روباط منطقية بينها بنفس الطريقة التي يفكر بها العقل البشري. ومن ثم الوصول إلى معلومات وحفظها للاستفادة منها لاحقا في اتخاذ قرارات وتنفيذها

وبهذه الطريقة أصبح بإمكان الآلة أن تتعلم من تلقاء نفسها. وهو ما يعرف بالذكاء الأصطناعي والذي تم توظيفه في أشكال عدة . ومن هذه الأشكال: محرك بحث جوجل. وكذلك الروبوتات التي تستخدم في أنشطة محددة مثل لعبة الشطرنج أو السيارت ذاتية القيادة أو الدردشة الفورية وبرامج المساعدة الذاتية. بل وبعضها بلغ من التطور ليحاكي البشر في الإنفعالات والتفكير والتنبأ بمشاعر الآخرين

الذكاء الاصطناعي يمهد الطريق إلى إنترنت الأشياء:ـ

وهذا الأمر أدى إلى زيادة حجم المعلومات بشكل يفوق قدرة قواعد البيانات العملاقة على حفظه وعمل روباط بينها. وهذا ما يطلق عليه البيانات العملاقة. ومن ثم أصبح العالم الآن يعيش في عصر جديد يطلق عليه .. عصر ما بعد المعلومات

ويمكن أن نؤرخ لهذا العصر بداية من عام 2000 . فمن بداية هذا العام تضاعف عدد الشركات الناشئة العاملة في مجال الذكاء الأصطناعي نحو 14 ضعف. وتضاعف الاستثمار في المجال 6 مرات. وتزايد عدد الوظائف التي تتطب ذكاء اصطناعي منذ عام 2013 بنحو 4 مرات

ومن الأمثلة الصارخة على ذلك أن الولايات المتحدة أصبحت تمتلك نحو 20 ألف وحدة من الأسلحة ذاتية التشغيل. والتي لديها القدرة على الرقابة والرصد وإطلاق النار ومواجهة العبوات الناسفة وتأمين الطرق والإسناد الجوي عن قرب

كذلك تم تطوير طائرات بدون طيار. وهي تقوم بمهام مراقبة الحدود والمحاصيل الزراعية وتوصيل الأطعمة والتصوير الفوتوغرافي والسنيمائي والعديد من الاستخدامات المدنية

وأنت أيضا .. يمكنك أن تلمس ذلك في حياتك اليومية. فمحرك بحث جوجل يعد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وبرامج المساعدة الصوتية. مثال على ذلك سيري الذي أنتجته أبل أو ألكسا الذي انتجته أمازون أو كورتانا الذي أنتجته ميكروسوفت. كلها تعد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

لكن المفاجآت لم تنتهي بعد .. فالشركات طورت تقنيات الذكاء الأصطناعي لتجعل تطبيقاتها قادرة على تواصل فيما بينها وهو ما يعرف بإنترنت الأشياء.

إنترنت الأشياء

فعلى سبيل المثال السيارة ذاتية القيادة. هنا عندما تصل إلى المرآب تتواصل السيارة مباشرة مع المنزل وتعطيه أمر ليفتح الباب. ثم تدخل، ثم تعطيه أمر ليغلق مرة أخرى، ويضيئ الأنوار. أجهزة التكييف والإنارة في المنزل بمجرد فتح المرآب تبدأ في العمل في المنزل وهكذا. المقصود هنا أن الأجهزة ذاتية العمل تصبح قادرة على التواصل فيما بينها لتنفيذ مهام محددة. هذا الأمر يمكن تطبيقه في المصانع والمدن الذكية وخدمات الحكومة الإلكترونية، وشبكات المرور، ورصد أوضاع الطيران، وإدارة السكك الحديدية

هذا التطور ساهم في تحقيق وفورات كبيرة في الوقت والجهد والتكلفة. فشركة أنتل على سبيل المثال نجحت في توفير 9 ملايين دولار في فروعها في ماليزيا. وتقليل معدلات الخطأ، وتحسين الجودة من خلال تحسين أداء عمل الآلات عبر تقنية إنترنت الأشياء. كذلك حققت شركتي أجريوم ودوبونت الأوروبيتين وفورات وصلت إلى نحو 20 مليون دولار بفضل تطبيقات إنترنت الأشياء في المجال الزراعي. أما شركة ريو تينتو فوفرت 300 مليون دولار من خلال استخدام إنترنت الأشياء

هل توقفنا عند هذا الحد .. بالطبع لا .. فالطموح البشري ينقلنا إلى الجيل الخامس من الإنترنت وهو ما يعرف بإنترنت الحياة

إنترنت الحياة

في الثمانينات ظهر الجيل الأول من الهواتف المحمولة، والذي يمكنك من إجراء اتصال هاتفي اينما تحركت داخل نطاق الشبكة الهوائية. أما الجيل الثاني فظهر أوائل التسعينات، وكان بإمكانك إرسال الرسائل النصية القصيرة بالإضافة للمكالمات الهاتفية

الجيل الثالث ظهر في بداية الألفية الثانية. ويعتبر ثورة في عالم الاتصال، وذلك لأنه مكننا من إرسال الوسائط المتعددة كالصور والرسوم والموسيقى ونحوها. وفي 2010 ظهر الجيل الرابع والذي حمل لنا سرعة 8 أضعاف الجيل الثالث. وتضمن تقديم خدمة الإنترنت عبر الهواتف الذكية. وتقديم الخدمات السحابية وتمهيد الطريق لتطبيقات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء لتصبح في جيب كل واحد منا

ومنذ 2020 بدأ العالم يشهد طفرة جديدة من خلال الجيل الخامس. تقنية هذا الجيل تعتمد على نقل البيانات عبر موجات مليمترية بتردد ما بين 30 إلى 300 جيجاهيرتز. بمعنى أنه بإمكانك مثلا تحميل فيلم بجودة 4 ك في ثانيتين دون أي مبالغة. نعم هذا صحيح، لكن الأمر يتطلب بالطبع أجهزة وشبكات وبنية تحتية قادرة على التعامل مع هذا الجيل فائق السرعة

جيل جديد فائق السرعة

أهمية هذا الجيل تكمن في اختزال الوقت وتنفيذ مهام الآلات بسرعة فائقة ودقة متناهية. لكن المفاجآت لم تنتهي بعد. ففي هذا الجيل يمكنك إجراء عملية جراحية عن بعد بدقة عالية. ويمكنك قراءة الأفكار الشخصية والمشاعر عبر التخاطر الذهني بين الأفرد. يمكن ذلك من خلال انتقال الموجهات الكهرومغناطيسية من مخ إنسان إلى آخر يبعد عنه ألاف الأميال. وذلك دون الحاجة للكلام أو التعبير عن المشاعر

ومن المتوقع أن تبلغ عائدات التطبيقات في هذا الجيل نحو 101 مليار دولار بحلول 2026. ونحو 96 مليار دولار في مجال خدمات الفيديو. وتشير تقديرات شركة أريكسون أن عدد مستخدمي الجيل الخامس سيصل نحو مليار ونصف المليات مستخدم بحلول 2024. وسيبلغ حجم سوق التكنولوجيا نحو 251 مليار دولار بحلول 2025. وتتوقع الأكاديمية الصينية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات أن يوفر هذا الجيل نحو 8 ملايين وظيفة محلية في الصين بحلول 2030

الإرهاصات الأولى لهذا الجيل الجديد بدأت بالفعل في عدد من الدول منها : شركة إي إي البريطانية، وشركة الإتصالات الإماراتية. وكذلك الصين بدأت في بناء محطات إرسال في أكثر من 16 مدينة صينية

التطبيقات الصحفية في عصر ما بعد المعلومات

وبطبيعة الحال لم تكن الصحافة بعيدة عن مواكبة هذه التطورات المتسارعة. فاستفادت من برامج الذكاء الاصطناعي لكشف الأخبار الزائفة، وتحليل البيانات الصخمة، وكتابة النصوص، وقراءة نشرات الأخبار. ويرى الباحثون أنها مجرد مسألة وقت لنرى غرف أخبار كاملة تدار دون ظهور الإنسان فيها. وهو ما يساهم في تقليل الأخطاء وتحسين جودة المحتوى الإعلامي المقدم. وهذا بالفعل ما أكدته دراسة أجرتها وكالة اسوشيتد برس. والتي تشير إلى أنه بحلول 2027 ستحظى غرف الأخبار بترسانة من أجهزة الذكاء الاصطناعي

هل معنى ذلك أننا كصحفيين سنفقد وظائفنا قريبا؟

أطمئن .. فوفقا لتوقعات مجلة أنلاتيك إنسايت الرقمية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي. فإن نحو 12% فقط من الوظائف ستتأثر، أما الباقي فبالطبع لا .. فمهمة تطبيقات الذكاء الاصطناعي تنحصر غالبا في تنفيذ الأعمال الرتيبة، ومن ثم توفير وقت وجهد الصحفيين للأنشطة الإبداعية. مثال على ذلك مهام مراجعة النصوص لغويا وتصحيحها. وكذلك مهام ترتيب الأخبار، وتجهيز نصوص الجرافيك الملحقة بالأخبار، وتقديم الأخبار البسيطة، وتقديم تقارير تحليلية من قواعد البيانات

لكن في المقابل مازلنا بحاجة للإبداع البشري في اختيار الموضوعات التي يتم طرحها. وكتابة التقارير المبدعة المبنية على التحليلات التي تقدمها له برامج الذكاء الاصطناعي. ومحاورة الضيوف في مقابلات تتسم بالعمق والديناميكية، وصناعة الأفلام الوثائقية والدرامية، وهكذا

ومن التطبيقات المهمة جدا للصحافة هي استخدام الطائرات بدون طيار لتصوير الحروب ومكافحة الإرهاب. وكذلك عمليات الإنقاذ الخطرة، والكوارث الطبيعية والصناعية وغيرها. ومن ثم لا حاجة لتعريض المراسلين للخطر، هنا الآلة تقوم بالمهام الخطرة نيابة عن البشر.

أيضا الروبوتات تقدم خدمات جليلة للصحافة الاقتصادية في مجال إصدار التقارير الفصلية. حيث بإمكانها تحليل البيانات الضخمة لأسواق المال واستنتاج معلومات وربطها بالخطوط العريضة للقصة الإخبارية. وصياغة تقرير دقيق في ثواني معدودة. ومن ثم توفير وقت وجهد فريق كامل من الصحفيين كانوا يعملون لأسابيع لأنتاج هذا التقرير.

التطبيقات الصحفية التقنية في مجتمع ما بعد المعلومات

الأسوشيتد برس

وتعتبر وكالة “الأسوشيتد برس” من أوائل المؤسسات الإعلامية التي استخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي. فقد وظفت تقنيات الذكاء الاصطناعي في إنتاج تقارير اقتصادية ربع سنوية عن الدخول المالية. والنتيجة كانت مبهرة على مستوى الكم والكيف معًا. فقد ساهمت التقنية الجديدة في إنجاز أكثر من 3000 تقرير اقتصادي بدلاً من 300 تقرير. وباتت الوكالة تستخدم “روبوتات” تؤدي المهام الإخبارية الأساسية مثل كتابة فقرتين إلى ست فقرات عن النتائج الرياضية وتقارير الأرباح الفصلية

رويترز

أما رويترز فقامت ببناء غرفة الأخبار الإلكترونية تسمى  إنسايت لينيكس. ومهمتها جمع وتنظيم الأخبار من مصادر الإنترنت، واقتراح الأفكار، وتحليل البيانات، وكتابة جمل كاملة إذا لزم الأمر. وكذلك أسست  رويترز نيوز تريزر. وهي “أداة قادرة على تتبع الأحداث بسرعة وعلى نطاق واسع. والتحقق تلقائيًا من الأخبار العاجلة في (تويتر) لتقديم تقرير عن الأحداث بدقة وبسرعة أكبر. وذلك من خلال تحديد موقع وهوية الشخص الذي كتب التغريدة، وكيفية انتشار التغريدات. وتصفية الرسائل غير المرغوب فيها. وتصنيف التغريدات في مجموعات. وفي ذات المضمار قامت رويترز بالتحالف مع شركة سمنانتيك لأتمتة مقاطع الفيديو التفاعلية

كذلك، استطاع “هيليوجراف”، وهو الروبوت المراسل لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية خلال منتصف 2016-2017، أن ينجز 850 موضوعًا صحفيًا. كانت بدايتها 300 تقرير حول “أوليمبياد ريو دي جانيرو”. وبعد هذه التجربة الناجحة استخدمت الجريدة “الروبوت” في تغطية سباق الانتخابات الأميركية. وكذلك تغطية دوري كرة القدم للمدارس الثانوية في واشنطن، إلى جانب إنتاج العديد من القصص والتغريدات المختلفة

نيويورك تايمز

وقامت صحيفة “نيويورك تايمز” بالاستفادة من الذكاء الإصطناعي في عدة مجالات: منها تسريع عمليات البحث الذكي اعتمادا على الوسوم. وإدارة تعليقات القراء نيابة عن العنصر البشري. حيث كان قسم تعليقات القراء تتم إدارته بواسطة فريق من 14 محرر يتولون مراجعة 11 ألف تعليق يوميا

لكن بفضل التقنية الجديدة تم توفير الجهد والوقت المبذول في هذه المهمة. وتقليص عمليات بناء القصص الصحفية والأخبار عبر مشروع المحرر الذي يقوم على تحليل المحتوى وفهمه. وإعداد النشرات البريدية حيث لديها أكث من 13 مليون مشترك في 50 نشرة إخبارية بريدية. وهي تعد من الأدوات المهمة جدا في إدراة الإعلانات في الجريدة. ووفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز”، فإن ما يقرب من ثلث المحتوى الذي نشرته “بلومبيرغ” يتم عبر أنظمة آلية دون تدخل بشري

ذا جارديان

 وقد نشرت صحيفة “ذا جارديان” مقالات كتبها “ريبورتر ميت”، وهو روبوت يعمل على تحويل البيانات إلى تقارير نصية جاهزة للنشر. أما سي إن إن فتستخدم نظام “شات بوت” أو الشات الآلي. وذلك لإرسال تقرير يومي لحسابك في “فيسبوك مسنجر” عن أهم الأخبار التي تهمك بناء على اهتماماتك

ووصلنا الآن للعملاق الكبير .. جوجل، والذي ساهم في تمويل 262 مشروع بقيمة 150 مليون يورو. ومن بين هذه المشاريع مشروع رادار، وهو بقيمة 706 ألف يورو. هذا المشروع هو عبارة عن وكالة انباء محلية تزود المؤسسات الصحفية في بريطانيا بالمقالات المنتجة بالذكاء الاصطناعي. لكن ما زال هناك فريق من الصحفيين يعمل في الوكالة لمراجعة المخرجات قبل نشرها

وعلى الرغم من المماراسات العديدة التي تنتهجها المؤسسات الصحفية في مجال الذكاء الاصطناعي. إلا أنها مازالت تواجه تحدي كبير يتعلق فيما يتعلق بألتزام الآلة بالقيم والأخلاق

المصادر

مقال: الصحافة في عصر البيانات والذكاء الاصطناعي

كتاب: مجتمع ما بعد المعلومات / إيهاب خليفة ، ط1،  أبوظبي: العربي، 2019

تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الأرشيف

فيديو: حلقة المواطن سعيد “التحرش الافتراضي”

التزييف العميق