من سيطعم المارد ؟

من سيطعم المارد ؟

في 1935 نشرة رواية ساخرة بعنوان إرتنوج للمؤلف أي. بي. وايت. تناولت الرواية هوس الناس بمطالعة كل ما هو مطبوع من كتب وأخبار ومقالات. تحدثت الرواية عن جمهور القراء الذين يستغلون كل دقيقة في حياتهم في القراءة. وهم يجلسون في محلات تلميع الأحذية. وأثناء ركوبهم القطارات، وأثناء الحلاقة، وهلم جرا. ذلك النهم دفع الناس للمطالبة بملخصات أقصر واقصر لكل شيء. وكان ذلك سببا في ظهور مجلة ريدرز دايجست. لقد استوعبت المجلة كل ما كان يكتب في المجلات الرائدة، ووضعت أملاً جديداً في قلوب القراء. اعتقد الجميع أن هذا هو الحل لمشكلة تضخم المعلومات وزيادة النشر. ولكن مع استمرار النشر أصبح من الواضح أن الأمر بدأ يخرج عن السيطرة، فالملخصات لن تستطيع أن تستوعب كل ما ينشر. وهنا ثمة فكرة جديدة بدأت تلوح في الأفق. فكرة هضم الهضم، أو دعنا نبسط المصطلح ونقول تلخيص الملخصات نفسها

يبدو أن وايت كان يقرأ المستقبل الذي نعيشه الآن. فمع ظهور شبكات السوشيال ميديا وانفجار المعلومات أصبح الأمر حقيقة خارج عن السيطرة. كيف يمكنك أن تستوعب كل ما ينشر حول موضوع واحد. الأمر شبه مستحيل. وكان هذا سببا في ظهور مارد جديد يختلف كليا في قدراته عن مجلة دايجست السابقة. ذلك المارد هو الذكاء الاصطناعي، حيث يمكنه بالفعل البحث في كل المعارف والمعلومات وتقديم خلاصات شافية لما تحتاجه

الراعي الرسمي للذكاء الاصطناعي

أطلقت جوجل العديد من الميزات الجديدة المدعومة بالذكاء الاصطناعي لمحرك البحث الخاص بها. إحدى أبرز الإضافات هي ميزة “لمحات الذكاء الاصطناعي”، والتي توفر ملخصات تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي في أعلى نتائج البحث. في الأساس، هذه طريقة رائعة للقول بأن الذكاء الاصطناعي سوف يلخص نتائج البحث لك.

لكن على ما يبدا أن هذا أمر بدأ يثير مخاوف ناشري الأخبار. ويرجع السبب في ذلك إلى أن شبكات السوشيال ميديا بدأت تسحب بساط الإعلانات من تحت أقدام المؤسسات الصحفية. أضف إلى ذلك انتشار المحتوى الإخباري المجاني الذي يجمعه لك المارد الجديد “الذكاء الاصطناعي”. كل هذا جعل مهمة المؤسسات الصحفية في جذب المشتركين والاحتفاظ بهم، مهمة تبدوا مستحيلة. ومعنى ذلك أن المؤسسات الصحفية في ظل هذه المنافسة الشرسة ربما لا تقوى على الاستمرار. وإذا ماتت، ستموت معها الأخبار، وإذا ماتت الأخبار فـ من سيطعم المارد الجديد؟

يشير مركز بيو للأبحاث، إلى انخفض التوظيف في غرف الأخبار في الولايات المتحدة بنسبة 26% بين عامي 2008 و2020. وكانت الصحف هي الأكثر تضرراً. وقد توقف ما يقرب من ثلث الصحف في البلاد عن العمل منذ عام 2005، مما ترك آلاف المجتمعات دون مصدر إخباري محلي. ووفقًا لمكتب الإحصاء الأمريكي، انخفضت إيرادات المجلات بنسبة 40.5% في العقدين الماضيين. بين عامي 2019 و2022 فقط. وانخفض إجمالي جمهور شركات المجلات بنسبة مذهلة بلغت 38.56%. وقالت صحيفة واشنطن بوست مؤخرا إنها خسرت 77 مليون دولار العام الماضي

الآن استخدمت جوجل الذكاء الاصطناعي لتنشئ نسخ  ملخصة من القصص الإخبارية. وهو ما يجعلنا لا نحتاج الوصول غلى المقالة الأصلية. وتهدف جوجل من ذلك إلى جذب الناس لمحركها، ومن ثم العزوف عن زيارة المواقع الإخبارية. وهذا الأمر يصبح مدمرا لاقتصادات المؤسسات الصحفية

صفقة مع الشيطان

يبدو أن المستثمرين في وادي السيلكون بدوا سعداء حقا بفكرة الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه تلخيص كل شيء. لكن من جهة أخرى يجب ألا نعتمد على هذه الملخصات على أنها صحيحة مائة في المائة. فمن الطرائف أنه عندما سؤال الذكاء الاصطناعي عن سبب عدم التصاق الجبن بالبيتزا، اقترح الذكاء الاصطناعي في جوجل أنه يجب عليك إضافة ثماني أكواب من الغراء غير السام إلى الصلصة لإضفاء المزيد من اللزوجة عليها. الأمر إذا يتطلب الأمر من المؤسسات الصحفية أن تتعايش مع ذلك المارد، فماذا فعلت؟

من الطبيعي أن تحارب المؤسسات الصحفية التهديد الذي تواجه. فقد رفعت بعض وسائل الإعلام دعوى قضائية ضد شركة أوبن أيه أي بتهمة انتهاك حقوق الطبع والنشر. – كما فعلت صحيفة نيويورك تايمز في ديسمبر. من جهة أخرى قررت مؤسسات إعلامية أخرى التعامل مع أوبن أيه أي، ومنها شركة فوكس واتلانتيك.  قامت هذه المؤسسات بتوقيع اتفاقيات ترخيص، مما يسمح للشركة باستخدام محتواها لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. والتي يمكن اعتبارها بمثابة تدريب للروبوتات لتولي الوظائف بسرعة أكبر. وقد انضمت بالفعل شركات الإعلام العملاقة مثل نيوز كورب، وأكسيل سبرينغر، والأسوشيتد برس. ومع ذلك، ولإثبات أنها ليست مدينة لأي من أسياد الآلات، نشرت مجلة أتلانتيك قصة عن “صفقة الشيطان” التي عقدتها وسائل الإعلام مع شركة أوبن أيه أي في نفس اليوم الذي أعلن فيه رئيسها التنفيذي، نيكولاس طومسون، عن شراكتهما

ختاما، لنفترض أن جوجل وأوبن أيه أي وفيسبوك نجحت، وأننا نقرأ ملخصات للأخبار، بدلاً من قراءة الأخبار الحقيقية. في نهاية المطاف، سوف تتوقف منافذ الأخبار عن العمل، ومن ثم من سيصنع الأخبار لمؤسسات التكنولوجيا لتقوم بتلخيصها؟ من سيطعم المارد ؟

المصدر

Vanity Fair